الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: خزانة الأدب وغاية الأرب ***
أنشد فيه، البسيط والله لا عذبتهم بعدها سقر على أن الماضي النفي بلا في جواب القسم ينصرف إلى الاستقبال كما في البيت. وهو عجز، وصدره: حسب المحبين في الدنيا عذابهم والبيت من قصيدةٍ للمؤمل بن أميل المحاربي، قالها في امرأةٍ كان يهواها من أهل الحيرة، يقال لها: هند، وهي قصيدة مشهورة. ومنها: شف المؤمل يوم الحيرة النظر *** ليت المؤمل لم يخلق له بصر ومنها: قتلت شاعر هذا الحي من مضرٍ *** والله يعلم ما ترضى بذا مضر روى الأصبهاني بسنده في الأغاني عن علي بن الحسن الشيباني، قال: رأى المؤمل في نومه قائلاً، يقول: أنت المتألي على الله أنه لا يعذب المحبين، حيث تقول: يكفي المحبين في الدنيا عذابهم *** والله لا عذبتهم بعدها سقر فقال: نعم. فقال: كذبت يا عدو الله! ثم أدخل إصبعيه في عينيه، وقال له: أنت القائل: شف المؤمل يوم الحيرة النظر ***...........البيت هذا ما تمنيت فانتبه فزعاً فإذا هو قد عمي. وروي بسنده أيضاً عن مصعب الزبيري أنه قال: أنشد المهدي: قتلت شاعر هذا الحي من مضرٍ ***..........البيت فضحك، وقال: لو علمنا أنها فعلت لما رضينا، ولغضبنا له، وأنكرنا. انتهى. وشفه: بالشين المعجمة والفاء بمعنى أرقه وأهزله ونقصه. والمتألي بمعنى الحالف: اسم فاعل من تألى من الألية، وهي اليمين. ويقال منها آل إيلاءً، وائتلى أيضاً: افتعل من الألية. والمؤمل: ابن أميل بن أسيد المحاربي. والمؤمل بصيغة اسم المفعول، والثاني: بالتصغير، وكلاهما مأخوذان من الأمل، والثالث: بفتح الهمزة وكسر السين المهملة. وهذه ترجمته من الأغاني، قال: هو المؤمل بن أميل بن أسيد المحاربي، من محارب بن خصفة بن قيس بن عيلان بن مضر. شاعرٌ كوفيٌّ من مخضرمي شعراء الدولتين الأموية والعباسية. وكانت شهرته في العباسية أكثر، لأنه كان من الجند المرتزقة معهم، ومن يخصهم، ويخدمهم من أوليائهم. وانقطع إلى المهدي في حياة أبيه، وبعده. وهو صالح المذهب في شعره، ليس من المبرزين الفحول، ولا المرذولين. وفي شعره لين. وله طبعٌ صالح. وروي عنه بالسند أنه قال: قدمت على المهدي وهو بالري، وهو إذ ذاك ولي عهد، فامتدحته بأبياتٍ، فأمر لي بعشرين ألف درهم، فكتب بذلك صاحب البريد إلى أبي جعفر المنصور وهو بمدينة السلام، يخبره أن الأمير المهدي أمر لشاعر بعشرين ألف درهم، فكتب إليه يعذله ويلومه، ويقول له: إنما كان ينبغي لك أن تعطيه بعد أن يقيم ببابك سنة أربعة ألاف درهم. وكتب إلى كاتب المهدي أن يوجه إليه بالشاعر. فطلب، فلم يقدر عليه، وكتب إلى أبي جعفر: إنه قد توجه إلى مدينة السلام. فأجلس قائداً من قواده على جسر النهروان وأمره أن يتصفح الناس رجلاً رجلاً. فجعل لا تمر به قافلة إلا تصفح من فيها حتى مرت القافلة التي فيها المؤمل، فتصفحهم فلما سأله من أنت؟ قال: أنا المؤمل بن أميل المحاربي الشاعر، أحد زوار الأمير المهدي. فقال: إياك طلبت. قال المؤمل: فكاد قلبي ينصدع خوفاً من أبي جعفر المنصور. فقبض علي، وأسلمني إلى الربيع، فأدخلني إلى أبي جعفر، وقال له: هذا الشاعر الذي أخذ من المهدي عشرين ألف درهم، قد ظفرنا به. فقال: أدخلوه إلي. فأدخلت عليه فسلمت تسليم مذعور مروع فرد علي السلام، وقال: ليس لك ها هنا إلا خيرٌ، أنت المؤمل بن أميل.؟ قلت: نعم يا أمير المؤمنين. قال: أتيت غلاماً غراً كريماً فخدعته فانخدع. قلت: نعم، أصلح الله أمير المؤمنين، أتيت غلاماً غراً كريماً فخدعته فانخدع. قال: فكأن ذلك أعجبه، فقال: أنشدني ما قلت له. فأنشدته: الوافر هو المهدي إلا أن فيه *** مشابهةً من القمر المنير تشابه ذا وذا، فهما إذا م *** أنارا مشكلان على البصير فهذا في الظلام سراج ليلٍ *** وهذا في النهار ضياء نور ولكن فضل الرحمن هذ *** على ذا بالمنابر والسرير وبالملك العزيز فذا أميرٌ *** وماذا بالأمير ولا الوزير وبعض الشهر ينقص ذا وهذ *** منيرٌ عند نقصان الشهور فيا ابن خليفة الله المصفى *** به تعلو مفاخرة الفخور لئن فت الملوك وقد توافو *** إليك من السهولة والوعور لقد سبق الملوك أبوك حتى *** بقوا من بين كابٍ وحسير وجئت مصلياً تجري حثيث *** وما بك حين تجري من فتور فقال الناس: ما هذان إل *** كما بين الخليق إلى الجدير لئن سبق الكبير فأهل سبقٍ *** له فضل الكبير على الصغير وإن بلغ الصغير مدى كبيرٍ *** فقد خلق الصغير من الكبير فقال: والله لقد أحسنت، ولكن هذا لا يساوي عشرين ألف درهم، فأين المال؟ ها هو هذا. قال: يا ربيع امض معه، فأعطه أربعة آلاف درهم، وخذ منه الباقي. قال المؤمل: فخرج معي الربيع فحط ثقلي ووزن لي من المال أربعة آلاف درهم، وأخذ الباقي. فلما ولي المهدي الخلافة ولى ابن ثوبان المظالم، فكان يجلس للناس بالرصافة، فإذا ملأ كساءه رقاعاً رفعها إلى المهدي، فرفعت إليه رقعةٌ فلما دخل بها ابن ثوبان جعل المهدي ينظر في الرقاع، حتى إذا وصل إلى رقعتي ضحك. فقال له ابن ثوبان: أصلح الله أمير المؤمنين، ما رأيتك ضحكت من شيءٍ من هذه الرقاع إلا من هذه الرقعة. فقال: هذه رقعة أعرف سببها، ردوا إليه عشرين ألف درهم. فردوها إلي وانصرفت. وروى بسنده أيضاً عن أبي محمد اليزيدي عن المؤمل بن أميل، قال: صرت إلى المهدي بجرجان، فمدحته بقولي: المتقارب تعز ودع عنك سلمى وسر *** حثيثاً على سائرات البغال وكل جوادٍ له ميعةٌ *** يخب بسرجك بعد الكلال إلى الشمس شمس بني هاشمٍ *** وما الشمس كالبدر وكالهلال ويضحكه أن يدون السؤال *** ويتلف من ضحكه كل مال فاستحسنها المهدي، وأمر لي بعشرة آلاف درهم. وشاع الشعر، وكان في عسكره رجلٌ يعرف بأبي الهوسات يغني، فغنى في الشعر لرفقائه، وبلغ ذلك المهدي فبعث إليه سراً، فدخل عليه فغناه، فأمر له بخمسة آلاف درهم، وأمر لي بعشرة آلاف درهم أخرى، وكتب بذلك صاحب البريد إلى المنصور. ثم ذكر باقي الخبر نحو ما تقدم قبله، وزاد فيه أن المنصور قال له: جئت إلى غلام غرٍّ، فخدعته، حتى أعطاك من مال الله عشرين ألف درهم، لشعرٍ قلته فيه غير جيد، وأعطاك من رقيق المسلمين مالاً يملكه، وأعطاك من الكراع والأثاث ما أسرف فيه، يا ربيع خذ منه ثمانية عشر ألف درهم وأعطه ألفين، ولا تعرض لشيءٍ من الأثاث والدواب، والرقيق، ففي ذلك غناه. فأخذت مني والله بخواتمها. فلما ولي المهدي دخلت عليه في المتظلمين، فلما رآني ضحك، وقال: مظلمةٌ أعرفها، ولا أحتاج إلى بينةٍ عليها. وجعل يضحك، وأمر بالمال فرد عليه بعينه، وزادني فيه عشرة آلاف درهم. انتهى. ومن شعره: الطويل حلمت بكم في نومتي فغضبتم *** ولا ذنب لي إن كنت في النوم أحلم سأطرد عني النوم كيلا أراكم *** إذا ما أتاني النوم والناس نوم تصارمني والله يعلم أنني *** أبر بها من والديها وأرحم وقد زعموا لي أنها نذرت دمي *** وما لي بحمد الله لحمٌ ولا دم برى حبها لحمي ولم يبق لي دم *** وإن زعموا أني صحيحٌ مسلم فلم أر مثل الحب صح سقيمه *** ولا مثل من لا يعرف الحب يسقم ستقتل جلداً بالياً فوق أعظمٍ *** وليس يبالي القتل جلدٌ وأعظم روى صاحب الأغاني بسنده إلى حذيفة بن محمد الطائي، قال: حدثني أبي قال: رأيت المؤمل شيخاً كبيراً نحيفاً أعمى، فقلت له لقد صدقت في قولك: وقد زعموا لي أنها نذرت دمي ***.........البيت فقال: نعم فديتك لا أقول إلا حقاً! أنشد فيه، الرجز أبيت أسري وتبيتي تدلكي *** جلدك بالعنبر والمسك الذكي على أن النون من الأفعال الخمسة قد يندر حذفها لا للأشياء المذكورة نظماً ونثراً. والأصل تبيتين تدلكين. قال ابن جني في باب ما يرد عن العربي مخالفاً لما عليه الجمهور، من كتاب الخصائص: سألت أبا علي رحمه الله عن قوله: أبيت أسري وتبيتي تدلكي *** وجهك بالعنبر والمسك الذكي فخضنا فيه، واستقر الأمر فيه على أنه حذف النون من تبيتين، كما حذف الحركة للضرورة في قوله: السريع فاليوم أشرب غير مستحقبٍ كذا وجهته معه، فقال لي: فكيف تصنع بقوله: تدلكي؟ قلت: نجعله بدلاً من تبيتي وحالاً، فنحذف النون كما حذفها من الأول في الموضعين. فاطمأن الأمر على هذا. وقد يجوز أن يكون تبيتي في موضع النصب بإضمار أن في غير الجواب، كما جاء بيت الأعشى: الطويل لنا هضبةٌ لا ينزل الذل وسطه *** ويأوي إليها المستجير فيعصما انتهى. وأورده ابن عصفور أيضاً في كتاب الضرائر، قال: ومنه حذف النون الذي هو علامة للرفع في الفعل المضارع لغير ناصبٍ ولا جازم، تشبيهاً لها بالضمة، من حيث كانتا علامتي رفع، نحو قول أيمن بن خريم: المتقارب وإذ يغصبوا الناس أموالهم *** إذا ملكوهم ولم يغصبوا وقول الآخر: أبيت أسري......... ***............البيت وقول الآخر، أنشده الفارسي: الرجز والأرض أورثت بني آدام *** ما يغرسوها شجراً أياما ألا ترى أن النون قد حذفت من يغصبون، وتبيتين، وتدلكين، ويغرسون، لغير ناصب ولا جازم، كما فعل بالحركة في أشرب من قوله: فاليوم أشرب غير مستحقبٍ ولا يحفظ شيءٌ من ذلك في الكلام، إلا ما جاء في حديث خرجه مسلم في قتلى بدر، حين قام عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فناداهم......الحديث. فسمع عمر قول النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله كيف يسمعوا، وأني يجيبوا، وقد جيفوا! ، فحذف النون من يسمعون ويجيبون. انتهى. وهذا البيت لم أقف على قائله: وقوله: أبيت أسري إلخ، أبيت: مضارع بات بيتوتة ومبيتاً ومباتاً، ومعناه اختصاص الفعل بالليل، كما اختص الفعل في ظل بالنهار. فإذا قلت: بات يسري، فمعناه فعل السرى بالليل، ولا يكون إلا مع سهر الليل. وأسري: مضارع سريت الليل وسريت به سرياً، والاسم السراية، إذا قطعته بالسير. وجملة: أسرى خبر بات. وتدلكي: دلكت الشيء دلكاً من باب قتل، إذا مرسته بيدك. ودلكت النعل بالأرض: مسحتها بها. وروى: وجهك بدل جلدك. والذكي: الشديد الرائحة. قال أبو القاسم البصري في كتاب أغلاط الدينوري في كتاب النبات: يستعمل الذكاء أيضاً في حدة الرائحة، فيقال: مسكٌ ذكيٌّ بين الذكاء. ويستعمل أيضاً فيما أنتن، فيقال منهما: رائحة ذكية، وقد ذكت الرائحة تذكو ذكواً وذكاءً، وهي في الطيب أشهر، وهم لها أكثر استعمالاً. انتهى. وأنشد بعده: الكامل كجواريٍ يلعبن بالصحراء على أن ظهور الجر والتنوين على الياء ضرورة. وقال في شرح الشافية: وقومٌ من العرب يجرون الياء والواو مجرى الحرف الصحيح في الاختيار، فيحركون ياء الرامي رفعاً وجراً، وياء يرمي رفعاً، وكذا واو يغزو رفعاً. وأنشد هذه الأبيات وغيرها. والمشهور ما هنا. قال ابن عصفور في كتاب الضرائر: فيه ضرورتان: إحداهما: إثبات الياء وتحريكها، وكان حقه أن يحذفها، فيقول: كجوارٍ. والثانية: أنه صرف ما لا ينصرف، وكان الوجه لما أثبت الياء إجراءً لها مجرى الحرف الصحيح أن يمنع الصرف فيقول كجواري. انتهى. وهذا المصراع عجزٌ، وصدره: ما إن رأيت ولا أرى في مدتي وإن: زائدة مؤكدة لما النافية، وجملة: ولا أرى في مدتي، أي: في عمري، معترضة بين أرى البصرية وبين مفعولها، وهو الكاف من قوله: كجوارٍ فإنها اسميةٌ ولا يصح جعلها حرفية، فإن التقدير حينئذ: ما رأيت نساءً كجواري. وحذف الموصوف من مثل هذا لا ينطبق عليه ضابطه، فإن الصفة إذا كانت جاراً ومجروراً، فلا بد لجواز حذف الموصوف أن يكون بعضاً من مجرور بمن وفي، كما هو المعروف. ومفعول لا أرى محذوف، أي: مثلهن. والجواري: جمع جارية، وهي الشابة. قال صاحب المصباح: الجارية السفينة، سميت بذلك لجريها في البحر، ومنه قيل للأمة جارية على التشبيه، لجريها مستسخرة في أشغال مواليها. والأصل فيها الشابة لخفتها. ثم توسعوا حتى سموا كل أمةٍ جارية وإن كانت عجوزاً لا تقدر على السعي، تسميةً بما كانت عليه. والصحراء: البرية والخلاء. وقال ابن المستوفي في شرح أبيات المفصل: والعامل في في والكاف على الاختلاف في توجيه العاملين رأيت الواقع، دون أرى المتوقع. وإن جاز إعمال كل واحدٍ منهما على الخلاف فيه، لكن الأولى ما ذكرته، لوجود الرؤية متحققة مع إعمال الأول، وعدمها متوهمة مع إعمال الثاني. ويقوي ذلك زيادة إن مع ما. وموضع الكاف نصب، وكذا موضع في أيضاً. هذا كلامه. والبيت مع كثرة تداوله في كتب النحو واللغة لم أقف على قائله. والله أعلم. وأنشد بعده: الطويل أبى الله أن أسموا بأم ولا أب على أن النصب على الواو يقدر كثيراً لأجل الضرورة. وأورده أبو الحسن سعيد بن مسعدة المجاشعي الأخفش في كتاب المعاياة، وقال: إنما جاز ذلك للشاعر لأن الحركات مستثقلة في حروف المد واللين، فلما جاز إسكانها في الاسم في موضع الجر والرفع أجري عليه في موضع النصب أيضاً، لما أخبرتك به. انتهى. وأورده ابن عصفور أيضاً في كتاب الضرائر، وقال: حذف الفتحة من آخر أسمو، إجراءً للنصب مجرى الرفع. والمصراع من أربعة أبياتٍ لعدو الله عامر بن الطفيل، على ما في ديوانه. وكانت كنيته في السلم أبو علي، وفي الحرب أبو عقيل،وهي: وما سودتني عامرٌ عن وراثةٍ *** أبى الله أن أسمو بأم ولا أب ولا شرفتني كنيةٌ عربيةٌ *** ولا خالفت نفسي مكارم منصبي ولكنني أحمي حماها وأتقي *** أذاها وأرمي من رماها بمنكب وأتركها تسمو إلى كل غايةٍ *** وتفخر حيي مشرق بعد مغرب قال جامع ديوانه: أراد تغلب حي المشرق، وحي المغرب. وقوله: وما سودتني عامر، أي: جعلتني سيد قبيلة بني عامر بالإرث عن آبائهم، بل سدتهم بأفعالي. وقوله: أبى الله إلخ، أبى له معنيان: أحدهما: بمعنى كره، وهو المراد هنا. والثاني: بمعنى امتنع. وأن أسمو مفعوله. والسمو: العلو. وهذا المصراع أورده ابن هشام في الباب الثامن من المغني قال في القاعدة الأولى: قد يعطى الشيء حكم ما أشبهه في معناه ولفظه وفيهما. فأما الأول فله صور كثيرة. إلى أن قال منها: العطف بولا بعد الإيجاب، في نحو قوله: أبى الله أن أسمو بأمٍّ ولا أب لما كان معناه قال الله لي: لا تسمو بأمٍّ ولا أب. انتهى. وقال العيني: الإباء: شدة الامتناع، وأن أسمو مفعوله، والتقدير: أبى الله سموي، وسيادتي بأمٍّ ولا أب. وقوله: ولا أب عطفٌ على قوله: بأمٍّ. وزاد كلمة لا تأكيداً للنفي. هذا كلامه فتأمله. وأورده جامع ديوانه كذا: أبى الله أن أسمو بأمي والأب فلا شاهد فيه على ما ذكره ابن هشام. واللام في الأب عوض عن المضاف إليه، أي: بأمي وأبي. وأورد المصراع أبو العباس المبرد في الكامل في أبيات ثلاثة كذا: إني وإن كنت ابن فارس عامرٍ *** وفي السر منها والصريح المهذب فما سودتني عامرٌ عن وراثةٍ *** أبى الله أن أسمو بأمٍّ ولا أب ولكنني أحمي حماها وأتقي *** أذاها وأرمي من رماها بمقنب قال أبو الحسن الأخفش فيما كتبه على الكامل: هذه الأبيات الثلاثة أولها: تقول ابنة العمري ما لك بعدم *** أراك صحيحاً كالسليم المعذب فقلت لها: همي الذي تعلمينه *** من الثأر في حيي زبيدٍ وأرحب إن اغزو زبيداً أغز قوماً أعزةً *** مركبهم في الحي خير مركب وإن أغز حيي خثعمٍ فدماؤهم *** شفاءٌ وخير الثأر للمتأوب فما أدرك الأوتار مثل محققٍ *** بأجرد طاوٍ كالعسيب المشذب وأسمر خطي وأبيض باترٍ *** وزغفٍ دلاصٍ كالغدير المثوب سلاح امرىءٍ قد يعلم الناس أنه *** طلوبٌ لثارات الرجال مطلب فإني وإن كنت......... ***..........إلى آخر الأبيات الثلاثة. قال الأخفش: السليم: الملدوغ، وقيل له: سليمٌ تفاؤلاً له بالسلامة. وزبيد وأرحب: قبيلتان من اليمن. والثأر: ما يكون لك عند من أصاب حميمك من الترة. والمتأوب: الذي يأتيك لطلب ثأره عندك، يقال: آب يؤوب، إذا رجع. والتأوب في غير هذا: السير بالنهار بلا توقف. والأوتار والأحقاد واحدهما وتر وحقد. والأجرد: الفرس المتحسر الشعر، والضامر أيضاً. والعسيب: السعفة. والمشذب: الذي قد أخذ ما عليه من العقد والسلاء والخوص. ومنه قيل للطويل المعرق مشذب. وخطيٌّ: رمحٌ نسب إلى الخط، وهي جزيرة بالبحرين، يقال: إنها تنبت الرماح. وقال الأصمعي: ليست بها رماح، ولكن سفينةً كانت وقعت إليها فيها رماحٌ، وأرفئت بها في بعض السنين المتقدمة، فقيل لتلك الرماح الخطية، ثم عم كل رمح هذا النسب إلى اليوم. والزغف: الدروع الرقيقة الدقيقة النسج. والمثوب: الذي تصفقه الرياح فيذهب ويجيء. وهو من ثاب يثوب. إذا رجع. وإنما سمي الغدير غديراً لأن السيل غادره أي: تركه. وقد أورد العيني رواية الأخفش وفسر جميع الأبيات، وقال: الأوتار جمع وتر بالكسر: الجناية. والطاوي: ضامر البطن. والأسمر: الرمح. والأبيض: السيف. والباتر: القاطع. والزغف، بفتح الزاي وسكون الغين المعجمة: جمع زغف بفتحتين، وهي الدرع الواسعة. ومنكب بفتح الميم وكسر الكاف: أعوان العرفان، وقيل: رأس العرفاء من النكابة، وهي العرافة والنقابة. وروى بدله: بمنقب بكسر الميم وفتح النون: جماعة الخيل والفرسان. انتهى المراد منه. وترجمة عامر بن الطفيل تقدمت في الشاهد الثامن والستين بعد المائة. وأنشد بعده: الرجز كأن أيديهن بالقاع القرق *** أيدي جوارٍ يتعاطين الورق على أن تسكين الياء من أيديهن ضرورة، والقياس فتحها. قال ابن جني في المحتسب عند قراءة الحسن: ويعفو الذي . ساكنة اللام: وسكون الواو من المضارع في موضع النصب قليل، وسكون الياء فيه أكثر. وأصل السكون في هذا إنما هو للألف لأنها لا تحرك أبداً، ثم شبهت الياء بالألف لقربها منها، فجاء عنهم مجيئاً كالمستمر، نحو قوله: الرجز كأن أيديهن بالموماة *** أيدي جوارٍ بتن ناعمات وقال الآخر: كأن أيديهم بالقاع القرق وقال الآخر: البسيط يا دار هندٍ عفت إلا أثافيها وكان أبو العباس المبرد يذهب إلى أن إسكان هذه الياء في موضع النصب من أحسن الضرورات، وذلك لأن الألف ساكنةٌ في الأحوال كلها، فكذلك جعلت هذه، ثم شبهت الواو في ذلك بالياء، فقال الأخطل: الطويل إذا شئت أن تلهو ببعض حديثه *** رفعن وأنزلن القطين المولدا وقال الآخر: الطويل أبى الله أن أسمو بأمٍّ ولا أب فعلى ذاك ينبغي أن تحمل قراءة الحسن: ويعفو الذي فقال ابن مجاهد: وهذا إنما يكون في الوقف. فأما في الوصل فلا يكون. وقد ذكرنا ما فيه. وعلى كل حال فالفتح أعرف. وقال ابن الشجري في أماليه: قال المبرد: هذا من أحسن الضرورات لأنهم ألحقوا حالة بحالتين، يعني أنهم جعلوا المنصوب كالمجرور والمرفوع، مع أن السكون أخف الحركات. ولذلك اعترضوا على إسكان الياء في ذوات الياء من المركبات نحو معديكرب، وقالي قلا. والبيتان من الرجز نسبهما ابن رشيق في العمدة إلى رؤبة بن العجاج، ولم أرهما في ديوانه. وضمير أيديهن للإبل. والقاع هو المكان المستوي. والقرق، بفتح القاف الأولى وكسر الراء: الأملس. وجوار، بفتح الجيم: جمع جارية. ويتعاطين، أي: يناول بعضهن بعضاً. والورق: الدراهم. وفي التنزيل: فابعثوا أحدكم بورقكم هذه . كذا في أمالي ابن الشجري. وقال الشريف المرتضى رحمه الله تعالى في أماليه: القرق: الخشن الذي فيه الحصى. وشبه حذف مناسمهن له بحذف جوارٍ يلعبن بدراهم. وخص الجواري لأنهن أخف يداً من النساء. وقال آخرون: القرق هنا المستوى من الأرض الواسع. وإنما خص بالوصف لأن أيدي الإبل، إذا أسرعت في المستوي، فهو أحمد لها، وإذا أبطأت في غيره، فهو أجهد لها. تتمة أورد الشارح المحقق بعد هذا الشعر المثل المشهور: أعط القوس باريها وقال: قد يقدر نصب الياء في السعة أيضاً. وذكر المثل، فإن باريها مفعول أعط، وهو ساكن الياء. وهو في هذا تابعٌ للزمخشري في المفصل. قال الميداني في أمثاله: أي استعن على عملك بأهل المعرفة والحذق فيه. وينشد: البسيط يا باري القوس برياً لست تحسنه *** لا تفسدنها وأعط القوس باريها قال شارح أبياته ابن المستوفي: قرأته على شيخنا أبي الحرم مكي بن ريان في الأمثال لأبي الفضل أحمد بن محمد الميداني: أعط القوس باريها بفتح، وكان في الأصل: ليس يحسنه فأصلحه وجعله برياً لست تحسنها وهو كذلك في نسخ كتاب الميداني. ولعل الزمخشري إنما أراد بالمثل آخر هذا البيت المذكور، فأورده على ما قاله الشاعر، لا على ما ورد من المثل في النثر، فإنه ليس بمحل ضرورة. ويروى: يا باري القوس برياً ليس يصلحه *** لا تظلم القوس واعط القوس باريها والأول أصح. ويجوز أن يسكن ياء باريها، وإن كان مثلاً برأسه، على ما تقدم تعليله. والمشهور تسكين يائه. وقد أورده الزمخشري في أمثاله، وقال: قيل إن الرواية عن العرب: باريها بسكون الياء لا غير. يضرب في وجوب تفويض الأمر إلى من يحسنه ويتمهر فيه. انتهى. وأنشد بعده: وهو من شواهد س: السريع فاليوم أشرب غير مستحقبٍ *** إثماً من الله ولا واغل على أنه يقدر في الضرورة رفع الحرف الصحيح، كما في أشرب فإن الباء حرفٌ صحيح، وقد حذف الضمة منه للضرورة. قال سيبويه: وقد يسكن بعضهم في الشعر ويشم، وذلك قول امرىء القيس: فاليوم أشرب غير مستحقبٍ ***..........البيت قال الأعلم: الشاهد فيه تسكين الباء من قوله أشرب في حال الرفع والوصل. وقال ابن جني في المحتسب: اعتراض أبي العباس المبرد هنا على الكتاب، إنما هو على العرب لا على صاحب الكتاب، لأنه حكاه كما سمعه، ولا يمكن في الوزن أيضاً غيره. وقول أبي العباس: إنما الرواية: فاليوم فاشرب، فكأنه قال لسيبويه: كذبت على العرب، ولم تسمع ما حكيته عنهم. وإذا بلغ الأمر هذا الحد من السرف فقد سقطت كلفة القول معه. وكذلك إنكاره عليه أيضاً قول الشاعر: السريع وقد بدا هنك من المئزر فقال: إنما الرواية: وقد بدا ذاك من المئزر وما أطيب العرس لولا النفقة. ولو كان إلى الناس تخير ما يحتمله الموضع لكان الرجل أقوم من الجماعة به، وأوصل إلى المراد منه. ووقع في نسخ الكامل للمبرد: فاليوم أسقى غير مستحقبٍ فلا شاهد فيه على هذا. ورواه أبو زيد في نوادره كرواية المبرد: فاليوم فاشرب. قال أبو الحسن الأخفش فيما كتبه على نوادره: الرواية الجيدة فاليوم فاشرب، واليوم أسقى. وأما رواية من روى فاليوم أشرب فلا يجوز عندنا إلا على ضرورة قبيحة، وإن كان جماعةٌ من رؤساء النحويين قد أجازوا. وهو في هذا تابعٌ للمبرد. وأورده ابن عصفور في كتاب الضرائر مع أبياتٍ مثله، وقال: ومن الضرورة حذف علامتي الإعراب: الضمة والكسرة، من الحرف الصحيح تخفيفاً، أجراءً للوصل مجرى الوقف، وتشبيهاً للضمة بالضمة من عضد، وللكسرة بالكسرة من فخذ وإبل، نحو قول امرىء القيس في إحدى الروايتين: فاليوم أشرب غير مستحقبٍ إلى أن قال: وأنكر المبرد والزجاج التسكين في جميع ذلك، لما فيه من إذهاب حركة الإعراب، وهي لمعنًى، ورويا موضع فاليوم أشرب: فاليوم فاشرب. والصحيح أن ذلك جائزٌ سماعاً وقياساً. أما القياس فإن النحويين اتفقوا على جواز ذهاب حركة الإعراب للإدغام، لا يخالف في ذلك أحدٌ منهم. وقد قرأت القراء: ما لك لا تأمنا بالإدغام، وخط في المصحف بنون واحدة فلم ينكر ذلك أحدٌ من النحويين. فكما جاز ذهابها للإدغام، فكذلك ينبغي أن لا ينكر ذهابها للتخفيف. وأما السماع فثبوت التخفيف في الأبيات التي تقدمت، وروايتهما بعض تلك الأبيات على خلاف التخفيف لا يقدح في رواية غيرهما. وأيضاً فإن ابن محارب قر: وبعولتهن أحق بردهن بإسكان التاء. وكذلك قرأ الحسن: وما يعدهم الشيطان . بإسكان الدال. وقرأ أيضاً مسلمة ومحارب: وإذ يعدكم بإسكان الدال. وكأن الذي حسن مجيء هذا التخفيف في حال السعة شدة اتصال الضمير بما قبل من حيث كان غير مستقل بنفسه، فصار التخفيف لذلك كأنه قد وقع في كلمة واحدة. والتخفيف الواقع في الكلمة نحو: عضد في عضد سائغٌ في حال السعة، لأنه لغةٌ لقبائل ربيعة، بخلاف ما شبه به من المفصل، فإنه لا يجوز إلا في الشعر. فإن كانت الضمة والكسرة اللتان في آخر الكلمة علامتي بناء، اتفق النحويون على جواز حذفهما في الشعر تخفيفاً. انتهى ما أردنا منه. وما نقله عن الزجاج مذكورٌ في تفسيره عند قوله تعالى: {فتوبوا إلى بارئكم} من سورة البقرة، قال: والاختيار ما روي عن أبي عمرو أنه قرأ: إلى بارئكم بإسكان الهمزة. وهذا رواه سيبويه باختلاس الكسر، وأحسب أن الرواية الصحيحة ما روى سيبويه فإنه أضبط لما روي عن أبي عمرو. والإعراب أشبه بالرواية عن أبي عمرو، ولأن حذف الكسر في مثل هذا وحذف الضم إنما يأتي باضطرارٍ من الشعر. وأنشد سيبويه وزعم أنه مما يجوز في الشعر خاصة: الرجز إذا اعوججن قلت صاحب قوم بإسكان الباء وأنشد أيضاً: فاليوم أشرب غير مستحقبٍ فالكلام الصحيح أن يقول: يا صاحب أقبل، ويا صاحب أقبل، ولا وجه للإسكان. وكذلك: اليوم أشرب يا هذا. وروى غير سيبويه هذه الأبيات على الإستقامة، وما ينبغي أن يجوز في الكلام والشعر. رووا هذا البيت على ضربين: فاليوم أسقى غير مستحقبٍ ورووا: إذا اعوججن قلت صاح قومِ ولم يكن سيبويه ليروي إلا ما سمع، إلا أن الذي سمعه هؤلاء هو الثابت في اللغة. وقد ذكر سيبويه أن القياس غير الذي روي. والبيت في قصيدة لامرىء القيس. قال عبد الرحمن السعدي في كتاب مساوي الخمر: غزا امرؤ القيس بني أسد ثائراً بأبيه، وقد جمع جموعاً من حمير وغيرهم من ذؤبان العرب وصعاليكها، وهرب بنو أسدٍ من بين يديه حتى أنضوا الإبل، وحسروا الخيل، ولحقهم، فظفر بهم، وقتل بهم مقتلة عظيمة، وأبار حلمة بن أسد، ومثل في عمروٍ وكاهل ابني أسد. وذكر الكلبي عن شيوخ كندة، أنه جعل يسمل أعينهم، ويحمي الدروع، فيلبسهم إياها. وروى أبو سعيد السكري مثل ذلك، وأنه ذبحهم على الجبل، ومزج الماء بدمائهم إلى أن بلغ الحضيض، وأصاب قوماً من جذامٍ كانوا في بني أسد. وفي ظفره ببني أسد يقول: السريع قولا لدودان عبيد العص *** ما غركم بالأسد الباسل لا تسقيني الخمر إن لم يرو *** قتلى فئاماً بأبي الفاضل حتى أبير الحي من مالكٍ *** قتلاً ومن يشرف من كاهل ومن بني غنم بن دودان إذ *** يقذف أعلاهم على السافل نعلوهم بالبيض مسنونةً *** حتى يروا كالخشب الشائل حلت لي الخمر وكنت امر *** من شربها في شغلٍ شاغل فاليوم أشرب غير مستحقبٍ *** إثماً من الله ولا واغل قوله: لدودان عبيد العصا، ودودان بالضم، هو ابن أسد بن خزيمة، وأراد القبيلة. وكان أبو امرىء القيس إذا غضب على أحد منهم، ضربوه بالعصا، فسموا عبيد العصا، أي: يعطون على الضرب والهوان. وأراد بالأسد الباسل أباه. والفئام، بكسر الفاء بعدها همزة ممدودة: الجماعة. وأبير: أفني. ومالك هو ابن أسد. وأراد بمن يشرف من كاهل علباء بن الحارث، من بني كاهل بن أسد. وقوله: يقذف، أي: يرمى بعضهم على بعض إذا قتلوا. والمسنونة: المحددة. والشائل: الساقط. وقوله: حلت لي الخمر إلخ، قال السعدي في مساوي الخمر. إنما قال هذا لأنه لم يكن حضر قتل أبيه، وكان أبوه أقصاه، لأنه كره منه قول الشعر، وإنما جاءه الأعور العجلي بخبره، وهو يشرب، فقال: ضيعني صغيراً، وحملني ثقل الثأر كبيراً. اليوم خمرٌ وغداً أمر. لا صحو اليوم ولا سكر غداً. ثم شرب سبعاً، ثم لما صحا حلف أن لا يغسل رأسه، ولا يشرب خمراً، حتى يدرك ثأره. فذلك قوله: حلت لي الخمر. وهذا معنًى ما زالت العرب تطرقه. قال الشنفرى يرثي خاله تأبط شراً، ويذكر إدراكه ثأره، من قصيدةٍ له: المديد فادركنا الثأر فيهم ولم *** ينج من لحيان إلا الأقل حلت الخمر وكانت حرام *** وبلأيٍ ما ألمت تحل وافهم أنهم إنما حرموا الخمر على أنفسهم في مدة طلبهم، لأنها مشغلة لهم عن كريم الأخلاق، والإقبال على الشهرة. قال إسماعيل بن هبة الله الموصلي في كتاب الأوائل أول من اخترع هذا المعنى امرؤ القيس في هذا الشعر. وأما قول أبي نواس: الكامل في مجلسٍ ضحك السرور به *** عن ناجذيه وحلت الخمر فكان نذر، لا يشرب، حتى يظفر بمن يهوى، فلما ظفر به، وشرب، قال هذا البيت. وكذا أيضاً قول البحتري: البسيط حتى نحل وقد حل الشراب لن *** جنات عدنٍ على الساجور ألفافا فإنه نذر أن لا يشرب خمراً حتى يصير إلى بلده، فلما صار إليه حل له الشراب. وبيت أبي نواس، قبله: الكامل ظلت حميا الكاس تبسطن *** حتى تهتك بيننا الستر قال السيد المرتضى، قدس الله روحه في أماليه: قوله: وحلت الخمر يحتمل أن ما وصف به من طيب الموضع وتكامل السرور به، وحضور المأمول فيه، صار مقتضياً لشرب الخمر. وملجئاً إلى تناولها، ورافعاً للحرج فيها، على مذهب الشعراء في المبالغة. وتكون فائدة وصفها بأنها حلت، المبالغة في وصف الحال بالحسن والطيب. ويحتمل أيضاً أن يكون عقد على نفسه، وآلى أن لا يتناول الخمر إلا بعد الاجتماع مع محبوبه، فكان الاجتماع معه مخرجاً عن يمينه، على مذهب العرب في تحريم الخمر على نفوسهم إلى أن يأخذوا بثأرهم. ويحتمل أيضاً أن يريد بحلت: نزلت وأقامت، من الحلول الذي هو المقام لا من الحلال، فكأنه وصف بلوغ جميع آرابه، وحضور فنون لذاته، وأنها تكاملت بحلول الخمر التي فيها جماع اللذات. وهذا الوجه وإن لم يشر إليه فالقول يحتمله: ولا مانع من أن يكون مراداً. وقد قيل إنه أراد: إذا استحللنا الخمر سكرنا، وفقدنا العقول التي كنا نمتنع لها من الحرام. والوجوه المقتدمة أشبه وأقرب إلى الصواب. وقوله: فاليوم أشرب إلخ، غير: حالٌ من ضمير أشرب. والمستحقب: المكتسب، وأصله من استحقب: أي وضع في الحقيبة، وهي خرجٌ يربط بالسرج خلف الراكب. وإثماً: مفعول مستحقب. كأن شربها بعد وفاء النذر لا إثم فيه بزعمه. وواغل معطوف على مستحقب، والواغل: الذي يأتي شراب القوم من غير أن يدعى إليه، وهو مأخوذٌ من الوغول وهو الدخول. ومعناه أنه وغلٌ في القوم، وليس منهم. وترجمة امرىء القيس تقدمت في الشاهد التاسع والأربعين. وأنشد بعده: الرجز ولا ترضاها ولا تملق على أن حرف العلة قد لا يحذف للجازم في الضرورة. قال أبو علي في إيضاح الشعر في باب: ما كان لامه من الأفعال حرف علة: قال الشاعر: البسيط هجوت زبان ثم جئت معتذر *** من هجو زبان لم تهجو ولم تدع وقال: ألم يأتيك والأنباء تنمي وقال آخر: الكامل ما أنس لا أنساه آخر عيشتي هذه الحروف قد تحذف في موضع الجزم في الاختيار، كما تحذف النون في التثنية والجمع، وفعل المؤنثة المخاطبة. وربما لم تحذف في الشعر. فقدر الشاعر في الواو والياء الحركة كالأبيات التي قدمناها، فتشبه الألف بالياء في نحو: لا أنساه في البيت، ونحو قوله: إذا العجوز غضبت فطلق *** ولا ترضاها ولا تملق ويدل على تقدير الشاعر الحركة في الياء والواو، وحذفها في الضرورة أن سيبويه زعم أن أعرابياً أفصح الناس من كليب، أنشد لجرير: الطويل فيوماً يوافين الهوى غير ماضي *** ويوماً ترى منهن غولاً تغول وكذا قال ابن جني في سر الصناعة، وفي الخصائص، وشرحه شرحاً واضحاً في شرح تصريف المازني. وزاد في سر الصناعة أن بعضهم رواه على الوجه الأعرف: ولا ترضها ولا تملق قال ابن عصفور في كتاب الضرائر: ينبغي أن تجعل لا في قوله: ولا ترضها نافية، والواو فيه للحال، مثلها في قمت وأصك وجهه، فيكون المعنى إذا ذاك: فطلقها غير مترضٍّ لها، ويكون قوله: ولا تملق جملة نهي معطوفةً على جملة الأمر التي هي طلق. ولا ينبغي أن تجعل لا حرف نهي، لأنها لو كانت للنهي لوجب حذف الألف من ترضاها. وينبغي أن يكون على هذا جملة: لا ترضاها خبر مبتدأ محذوف، أي: وأنت لا تترضاها. والبيتان من رجز لرؤبة بن العجاج. وبعده: واعمد لأخرى ذات دلٍّ مونق *** لينة المس كمس الخرنق هكذا أورده أبو محمد الأعرابي في ضالة الأديب. وقوله: إذا العجوز غضبت روى أيضاً: كبرت بدل غضبت. والترضي والاسترضاء بمعنًى. قال الجوهري: يقال تملقه، وتملق له تملقاً وتملاقاً، أي: تودد إليه، وتلطف له. واعمد بمعنى اقصد. والدل بفتح الدال، بمعنى الدلال والغنج. ومونق: اسم فاعل من أنق الشيء أنقاً من باب تعب، أي: راع حسنه وأعجب. والخرنق بكسر الخاء المعجمة والنون وسكون الراء بينهما: ولد الأرنب. وترجمة رؤبة تقدمت في الشاهد الخامس من أول الكتاب. وأنشد بعده: وهو من شواهد س: الوافر ألم يأتيك والأنباء تنمي لما تقدم في البيت قبله. وأورده سيبويه في موضعين من كتابه على أنه أثبت الياء في حال الجزم ضرورة، لأنه إذا اضطر ضمها في حال الرفع تشبيهاً بالصحيح. قال الأعلم: وهي لغةٌ ضعيفة، فاستعملها عند الضرورة. وهذا قول الزجاجي في الجمل، وتبعه الأعلم. قال ابن السيد في شرح أبياته: وقوله: إنه لغةٌ، خطأٌ. ومثله للصفار في شرح الكتاب: قال: إثباب حرف العلة في المجزوم ضرورة، نحو: ألم يأتيك. وقيل: إنه لغة، يعرب بحركات مقدرة. والصحيح أنه ليس لغة، ولا علم من قاله غير الزجاجي، ولا سند له فيه. ومما يدل على أنه غير معرب بحركات مقدرة أنهم لا يقولون لم أخشى، لأنه لا يظهر فيه حركة بوجهٍ، بخلاف الياء. فإن قلت: إنه سمع في قوله تعالى: {لا تخف دركاً ولا تخشى}. وقوله: إذا العجوز غضبت فطلق ***.........البيت قلت: لا دليل فيه كما زعمت، لأن الأول مقطوع، أي: وأنت لا تخشى، أي: في هذه الحال. وكذا ولا ترضاها، أي: طلقها، وأنت لا تترضاها، ثم قال: ولا تملق، فلا دليل فيه. وقال ابن خلف: هذا البيت أنشده سيبويه في باب الضرورات، وليس يجب أن يكون من باب الضرورات، لأنه لو أنشد بحذف الياء لم ينكسر، وإنما موضع الضرورة ما لا يجد الشاعر منه بداً في إثباته، ولا يقدر على حذفه لئلا ينكسر الشعر، وهذا يسمى في عروض الوافر المنقوص، أعني: إذا حذف الياء من قوله: ألم يأتيك. هذا كلامه. ولا يخفى أن ما فسر به الضرورة مذهبٌ مرجوح مردود. والتحقيق عند المحققين: أنها ما وقع في الشعر، سواءٌ كان للشاعر عنه مندوحةٌ أم لا. وقال ابن جني: في فصل الهمزة من سر الصناعة: رواه بعض أصحابنا: ألم يأتك على ظاهر الجزم، وأنشده أبو العباس عن أبي عثمان عن الأصمعي: ألا هل اتاك والأنباء تنمي فالأول فيه الكف، والثاني فيه نقل حركة الهمزة من أتاك إلى لام هل وحذفها. ورواه بعضهم: ألم يبلغك والأنباء تنمي فلا شاهد فيه على الروايات الثلاث. والبيت أورده ابن هشام في موضعين من المغني: أحدهما: في الباء قال: الباء في قوله: بما زائدة في الضرورة. وقال ابن الضائع: الباء متعلقة بتنمي، وإن فاعل يأتي مضمر، والمسألة من باب الإعمال. وثانيهما: في الجملة المعترضة من الباب الثاني، قال: جملة والأنباء تنمي معترضة بين الفعل والفاعل، على أن الباء زائدة في الفاعل. ويحتمل أن يأتي وتنمي تنازعا، فأعمل الثاني، وأضمر الفاعل في الأول، فلا اعتراض ولا زيادة. ولكن المعنى على الأول أوجه، إذ الأنباء من شأنها أن تنمي بهذا وبغيره. يريد أن يأتي وتنمي تنازعا قوله: بما، والأول يطلبه للفاعلية، والثاني يطلبه للمفعولية، فأعمل الثاني على المختار، وأضمر الفاعل في الأول وهو ضمير ما لاقت. وقال الأعلم، وابن الشجري في أماليه: الباء زائدة بمنزلتها في كفى بالله شهيداً . وحسن دخولها في ما أنها مبهمة مبنية كالحرف، فأدخل عليها حرف الجر إشعاراً بأنها اسم، والتقدير: ألم يأتيك ما لاقت. ويجوز أن تكون متصلة بيأتيك على إضمار الفاعل، فيكون التقدير: ألم يأتيك النبأ بما لاقت. ودل على النبأ قوله: والأنباء تنمي، أي: تشيع، وأصله من نمى الشيء ينمي، إذا ارتفع وزاد. وعلى هذا لا تنازع. وفيه الاعتراض بالجملة. وقول ابن هشام إن زيادة الباء هنا ضرورة هو قول ابن عصفور، قال في كتاب الضرائر: ومنها زيادة حرف الجر في المواضع التي لا تزاد فيها في سعة الكلام، نحو: ألم يأتيك.......البيت فزاد الباء في فاعل يأتي. وزيادتها لا تنقاس في سعة الكلام إلا في خبر ما، وخبر ليس، وفاعل: كفى ومفعوله، وفاعل أفعل بمعنى: ما أفعله. وما عدا هذه المواضع لا تزاد فيه الباء إلا في ضرورةٍ، وشاذ من الكلام يحفظ ولا يقاس عليه. وقال ابن جني في المحتسب: زاد الباء في بما لاقت لما كان معناه: ألم تسمع ما لاقت لبونهم. هذا كلامه. وكأنه على التضمين. وفيه بعدٌ. وقال ابن المستوفي: وابن خلف: ويجوز أن يكون لبون فاعل يأتي على تقدير مضاف، أي: ألم يأتيك خبر لبونهم، ويكون في لاقت ضميرٌ يعود إلى لبون، ويكون لبون في نية التقديم. وعلى هذا تكون الباء متعلقة بيأتي، وفيه التنازع على إعمال الأول على خلاف المختار، وفيه تعسف لتقدير المضاف في الأول وعدمه في الثاني. والكاف في يأتيك لمخاطب غير معين، أي: يا من يصلح للخطاب. والأنباء: جمع نبأ، وهو خبرٌ له شأن. واللبون قال أبو زيد: هي من الشاء والإبل: ذات اللبن، غزيرةً كانت أم بكيئة، فإذا قصدوا قصد الغزيرة قالوا: لبنة، وقال ابن السيد، وتبعه ابن خلف: اللبون: الإبل ذوات اللبن، وهو اسمٌ مفرد أراد به الجنس. وبنو زياد: هم الكملة، الربيع، وعمارة، وقيس، وأنس، بنو زياد بن سفيان بن عبد الله العبسي. وأمهم فاطمة بنت الخرشب الأنمارية. والمراد لبون الربيع بن زياد، فإن القصة معه فقط، كما يأتي بيانها. كما يقال: بنو فلان فعلوا كذا، إذا كان الفاعل بعضهم، وأسند الفعل إلى الجميع لرضاهم بفعل البعض. ومثل هذا البيت قول عفيف بن المنذر: الوافر ألم يأتيك والأنباء تنمي *** بما لاقت سراة بني تميم تداعى من سراتهم رجالٌ *** وكانوا في النوائر والصميم والبيت أول أبياتٍ لقيس بن زهير بن جذيمة بن رواحة العبسي، وكان سيد قومه، ونشأت بينه وبين الربيع بن زياد العبسي شحناء في شأن درعٍ ساومه فيها، ولما نظر إليها وهو على ظهر فرسه وضعها على القربوس، ثم ركض بها، فلم يردها عليه، فاعترض قيس بن زهير أم الربيع: فاطمة بنت الخرشب المذكورة، في ظعائن من بني عبس، فاقتاد جملها، يريد أن يرتهنها بدرعه. فقالت له: ما رأيت كاليوم قط فعل رجل! أين ضل حلمك يا قيس؟! أترجو أن تصطلح أنت وبنو زياد أبداً وقد أخذت أمهم؟ فذهبت بها يميناً وشمالاً! فقال الناس في ذلك ما شاؤوا أن يقولو: وحسبك من شر سماعه! فأرسلتها مثلاً. فعرف قيسٌ ما قالت، فخلى سبيلها، ثم أطرد إبلاً له، وقيل: إبله وإبل إخوته، فقدم بها مكة، فباعها من عبد الله بن جدعان التيمي، معاوضةً بأدراعٍ وسيوف. ثم جاور ربيعة بن قرط بن سلمة بن قشير، وهو ربيعة الخير، ويكنى أبا هلال. وفاطمة الأنمارية، هي إحدى المنجبات. وسئلت عن بنيها: أيهم أفضل؟ فقالت: الربيع، لا بل عمارة، لا بل قيس، لا بل أنس، ثكلتهم إن كنت أدري أيهم أفضل، هم كالحلقة المفرغة، لا يدري أين طرفاها! وكانت امرأةً لها ضيافةٌ وسودد. والأبيات هذه بعد الأول: ومحبسها على القرشي تشرى *** بأدراعٍ وأسيافٍ حداد كما لاقيت من حمل بن بدر *** وإخوته على ذات الإصاد هم فخروا علي بغير فخرٍ *** وردوا دون غايته جوادي وكنت إذا منيت بخصم سوءٍ *** دلفت له بداهيةٍ نآد بداهيةٍ تدق الصلب منهم *** بقصمٍ وتجوب عن الفؤاد أطوف ما أطوف ثم آوي *** إلى جارٍ كجار أبي دواد منيع وسط عكرمة بن قيسٍ *** وهوبٍ للطريف وللتلاد تظل جياده يعسلن حولي *** بذات الرمث كالحدإ العوادي كفاني ما أخاف أبو هلالٍ *** ربيعة فانتهت عني الأعادي كأني إذ أنخت إلى ابن قرطٍ *** أنخت إلى يلملم ونضاد وقوله: ومحبسها بالرفع، معطوف على فاعل يأتيك، وهو ما لاقت، ولبون، وبالجر عطفاً على مدخول الباء إن كان الفاعل ضمير النبأ. والمحبس: مصدر ميمي. والقرشي هنا هو عبد الله بن جدعان، بضم الجيم، ابن عمرو بن كعب ابن سعد بن تيم بن مرة القرشي. وعبد الله من أجواد قريش في الجاهلية. وشذ ابن السيد في قوله: إن قيساً لما قدم مكة بإبل الربيع باعها لحرب بن أمية، وهشام بن المغيرة، بخيلٍ وسلاح. وتشرى، بالبناء للمفعول، الجملة: حال من ضمير المؤنث في محبسها. وقالوا: هو بمعنى تباع. ويجوز أن يكون المعنى: يشتريها القرشي، فالجملة حالٌ من القرشي. وفي هذا البيت بيانٌ لما لاقته لبون بني زياد، وافتخارٌ وتبجج بما فعله من أخذ إبله وبيعها بمكة. وقوله: كما لاقيت قال ابن الشجري: العامل فيه محذوف، تقديره: لاقيت منهم كما لاقيت من حمل بن بدر. ومثله في حذف الفعل منه للدلالة عليه، قول يزيد بن مفرغ الحميري: الخفيف لا ذعرت السوام في وضح الصب *** ح مغيراً ولا دعيت يزيدا يوم أعطى من المخافة ضيم *** والمنايا يرصدنني أن أحيدا طالعاتٍ أخذن كل سبيلٍ *** لا شقياً ولا يدعن سعيدا أراد: لا يدعن شقياً، فحذف. انتهى. وذات الإصاد، بكسر الهمزة. موضع. وهذا البيت وما بعده إشارةٌ إلى حرب داحسٍ والغبراء، وهذا إجمالها من كتاب الفاخر للمفضل بن سلمة، قال: داحس: فرس قيس بن زهير العبسي، والغبراء: فرس حذيفة بن بدرٍ الفزاري. وكان من حديثهما أن رجلاً من بني عبس، يقال له: قرواش بن هني، مارى حمل بن بدرٍ أخا حذيفة، في داحس والغبراء، فقال حمل: الغبراء أجود. وقال قرواش: داحسٌ أجود. فتراهنا عليهما عشرةً في عشرة. فأتى قرواشٌ إلى قيس بن زهير فأخبره، فقال له قيس: راهن من أحببت وجنبني بني بدر، فإنهم يظلمون، لقدرتهم على الناس في أنفسهم، وأنا نكدٌ أباءٌ! فقال قرواش: فإني قد أوجبت الرهان. فقال قيس: ويلك! ما أردت إلى أشأم أهل بيت؟ والله لتنفلن علينا شراً. ثم إن قيساً أتى حمل بن بدر، فقال: إني أتيتك لأواضعك الرهان عن صاحبي. قال حمل: لا أواضعك وتجيء بالعشر، فإن أخذتها أخذت سبقي، وإن تركتها، تركت حقاً قد عرفته لي، وعرفته لنفسي. فأحفظ قيساً، فقال: هي عشرون. قال حملٌ: ثلاثون. فتزايدا حتى بلغ به قيس مائة، وجعل الغاية مائة غلوة والغلوة بفتح المعجمة: مقدار رمية سهم. فضمروهما أربعين يوماً، ثم استقبل الذي ذرع الغاية من ذات الإصاد، وهي ردهة في ديار عبس وسط هضب القليب قال الأصمعي: هضب القليب بنجد جبالٌ صغار، والقليب في وسط هذا الموضع، يقال له ذات الإصاد، وهو اسم من أسمائها. والردهة: نقيرة في حجر يجتمع فيها الماء فانتهى الذرع إلى مكان ليس له اسم. فقادوا الفرسين إلى الغاية، وقد عطشوهما، وجعلوا السابق الذي يرد ذات الإصاد، وهي ملأى من الماء. ولم يكن ثم قصبةٌ. ووضع حملٌ حيساً في دلاء، وجعله في شعب من شعاب هضب القليب على طريق الفرسين، وكمن معه فتيانا،ً وأمرهم إن جاء داحسٌ سابقاً أن يردوا وجهه عن الغاية وأرسلوهما من منتهى الذرع، فلما دنوا وقد برز داحسٌ، وثب الفتيان فلطموا وجه داحس فردوه عن الغاية. فقال قيس: يا حذيفة أعطني سبقي. وقال الذي وضع عنده السبق: إن قيساً قد سبق، وإنما أردت أن يقال: سبق حذيفة، وقد قيل، فأمره أن يدفعه لقيس. ثم إن حذيفة ندمه الناس فبعث ابنه يأخذ السبق من قيس، فقتله قيس، فاجتمع الناس، فاحتملوا ديته مائة عشراء، فقبضها حذيفة وسكن الناس. ثم إن حذيفة استفرد أخا قيس، وهو مالك بن زهير، فقتله. وكان الربيع بن زياد يومئذٍ مجاور بني فزارة عند امرأته، وكان مشاحناً لقيس بن زهير في درعه التي اغتصبها من قيس، كما تقدم ذكرها، فلما قتل مالك بن زهير، ارتحل الربيع بن زياد، ولحق بقومه، وأتاه قيس بن زهير فصالحه، ونزل معه، ثم دس قيسٌ أمة له إلى الربيع تنظر ما يعمل، فأتته امرأته تعرض له، وهي على طهر، فزجرها وقال: الكامل منع الرقاد فما أغمض حار *** جللٌ من النبأ المهم الساري من كان مسروراً بمقتل مالكٍ *** فليأت نسوتنا بوجه نهار يجد النساء حواسراً يندبنه *** يندبن بين عوانس وعذاري أفبعد مقتل مالك بن زهيرٍ *** ترجو النساء عواقب الأطهار فأخبرت الأمة قيساً بهذا فأعتقها. ثم إن بني عبس تجمعوا ورئيسهم الربيع بن زياد، وتجمع بنو ذبيان ورئيسهم حذيفة بن بدر، وتحاربوا مراراً. ثم إن الربيع بن زياد أظفره الله في جعفر الهباءة على حذيفة بن بدر وأخويه: حمل بن بدر، ومالك بن بدر، فقتلهم، ومثلوا بحذيفة فقطعوا ذكره فجعلوه في فيه، وجعلوا لسانه في دبره. وقال الربيع بن زياد يرثي حمل بن بدر: الوافر تعمل أن خير الناس طر *** على جفر الهباءة ما يريم ولولا ظلمه ما زلت أبكي *** عليه الدهر ما طلع النجوم ولكن الفتى حمل بن بدرٍ *** بغى والبغي مرتعه وخيم أظن الحلم دل علي قومي *** وقد يستجهل الرجل الحليم ألاقي من رجالٍ منكراتٍ *** فأنكرها وما أنا بالظلوم ومارست الرجال ومارسوني *** فمعوجٌّ علي ومستقيم ودامت الحرب بينهم أربعين سنة إلى أن ضعف قيس بن زهير، فحالف ربيعة بن قرط بن سلمة بن قشير، وهو ربيعة الخير، ويكنى أبا هلال. وقيل: هو ربيعة بن قرط بن عبد بن أبي بكر بن كلاب. فنزل قيسٌ مع بني عبس عنده، وقال: أحاول ما أحاول ثم آوي *** إلى جارٍ كجار أبي دواد إلى آخر الأبيات المذكورة. وقوله: وكنت إذا منيت إلخ، أي: بليت. ودلفت: أسرعت. والنآد بهمزة ممدودة، قبلها نون وبعدها دال: الشديدة من الدواهي. وتقصم: تكسر. وتجوب: تشق. وقوله: كجار أبي داود الجار هنا: الناصر والحليف. كان أبو دواد الإيادي في الجاهلية جاور الحارث بن همام بن مرة بن ذهل بن شيبان، فخرج صبيان الحي يلعبون في غدير، فغمسوا ابن أبي دوادٍ، فقتلوه، فقال الحارث بن همام: لا يبق في الحي صبيٌّ إلا غرق في الغدير! فودي ابن أبي دواد تسع دياتٍ وعشراً. ويعسلن، من العسلان، وهو اهتزاز الذي يعدو. والحدأ: جمع حدأة، كعنب، جمع عنبة: طائر معروف. ويلملم ونضاد: جبلان. وقول الربيع بن زياد: من كان مسروراً بمقتل مالك ***...........إلخ يقول: من شمت من الأعداء بمقتل مالك، فليعلم أنا قد أدركنا ثأره. وكانت العرب لا تندب قتلاها حتى تدرك ثأرها. وكان قيس قتل ابن حذيفة كما تقدم، فقتل حذيفة مالكاً أخا قيس. والمراد: فليحضر ساحتنا في أول النهار، ليعلم أن ما كان محرماً من البكاء قد حل، ويجد النساء مكشوفات الرؤوس يندبنه. وروي: يجد النساء حواسراً يندبنه *** يلطمن أوجههن بالأسحار وروي أيضاً: قد قمن قبل تبلج الأسحار وروي أيضاً: بالصبح قبل تبلج الأسحار قال ابن نباتة في سرح العيون، في شرح رسالة ابن زيدون: لبعض الأدباء اعتراضٌ في قوله: بالصبح قبل تبلج الأسحار فإن الصبح لا يكون إلا بعد تبلج الأسحار. أجيب بأقوالٍ منها: أن الصبح هنا الحق الواضح، من وصفه الذي هو كالصبح، لأنها تندبه بخلاله الحسنة الواضحة. انتهى. وقيس بن زهير: جاهليٌّ، وهو صاحب الحروب بين عبس وذبيان بسبب الفرسين: داحس والغبراء كما تقدم. وكان فارساً شاعراً داهية، يضرب به المثل، فيقال: أدهى من قيس . ولما طال الحرب ومل، أشار على قومه بالرجوع إلى قومهم ومصالحتهم، فقالوا: سر نسر معك. فقال: لا ولله لا نظرت في وجهي ذبيانيةٌ قتلت أباه وأخاها، وزوجه وولدها. وتقدم ذكر الصلح في شرح معلقة زهير بن أبي سلمى. ثم خرج على وجهه حتى لحق بالنمر بن قاسط، وتزوج منهم وأقام عندهم مدة، ثم رحل إلى عمان، فأقام بها حتى مات. وقيل: إنه خرج هو وصاحبٌ له من بني أسد عليهما المسوح يسيحان في الأرض ويتقوتان مما تنبت، إلى أن دفعا في ليلةٍ باردة إلى أخبيةٍ لقومٍ، وقد اشتد بهما الجوع، فوجدا رائحة شواءٍ فسعيا يريدانه، فلما قاربا أدركت قيساً شهامة النفس والأنفة فرجع، وقال لصاحبه: دونك وما تريد، فإن لي لبثاً على هذه الأجارع، أترقب داهية القرون الماضية. فمضى صاحبه ورجع من الغد فوجده قد لجأ إلى شجرةٍ بأسفل وادٍ فنال من ورقها شيئاً ثم مات. وأنشد بعده: فأنظور هو قطعةٌ من بيت، وهو: وأنني حيثما يثني الهوى بصري *** من حوثما سلكوا أدنو فأنظور أي: فأنظر. وتقدم الكلام عليه في الشاهد الحادي عشر من أوائل الكتاب. وأنشد بعده: ينباع وهذا أيضاً قطعةٌ من بيت تقدم في الشاهد الثاني عشر بعد بيت فأنظور، وهو: الكامل ينباع من ذفرى غضوبٍ جسرةٍ *** زيافةٍ مثل الفنيق المقرم أي: ينبع. والذفرى: الموضع الذي يعرق من الإبل خلف الأذن. والغضوب: الناقة العبوس الصعبة الشديدة الرأس. والجسرة: الجاسرة في السير. والزيافة: المتبخترة. والفنيق: الفحل المكرم لا يركب لكرامته عند أهله. والمقرم، بضم الميم وفتح الراء: البعير الذي لا يحمل عليه ولا يذلل، وإنما هو للفحلة. وتقدم الكلام هناك مفصلاً عليه. وأنشد بعده:
|